سورة التوبة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{كَيْفَ} تكريرٌ لاستنكار ما مر من أن يكون للمشركين عهدٌ حقيقٌ بالمراعاة عند الله سبحانه وعند رسولِه صلى الله عليه وسلم، وأما ما قيل من أنه لاستبعاد ثباتِهم على العهد فكما ترى لأن ما يُذكر بصدد التعليلِ للاستبعاد عينُ عدمِ ثباتِهم على العهد لا أنه شيءٌ يستدعيه، وإنما أعيد الاستنكارُ والاستبعادُ تأكيداً لهما وتمهيداً لتعداد العللِ الموجبةِ لهما لإخلال تخلّلِ ما في البين من الارتباط والتقريب، وحذفُ الفعل المستنكَر للإيذان بأن النفسَ مستحضِرةٌ له مترقِّبةٌ لورود ما يوجب استنكارَه لا لمجرد كونِه معلوماً كما في قوله:
وخبّرتماني أنما الموتُ بالقُرى *** فكيف وهاتا هضبةٌ وقليبُ
فإنه علةٌ مصححةٌ لا مرجِّحةٌ أي كيف يكون لهم عهدٌ متعدٌّ به عند الله تعالى وعند رسولِه صلى الله عليه وسلم {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي وحالُهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفَروا بكم {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ} أي لا يُراعوا في شأنكم، وأصلُ الرقوبِ النظرُ بطريق الحفظِ والرعايةِ ومنه الرقيبُ ثم استُعمل في مطلق الرعايةِ، والمراقبةُ أبلغُ منه كالمراعاة، وفي نفي الرقوبِ من المبالغة ما ليس في نفيها {إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} أي حِلفاً وقيل: قرابةً ولا عهداً، أو حقاً يُعاب على إغفاله مع ما سبق لهم من تأكيد الأَيمان والمواثيقِ، يعني أن وجوبَ مراعاةِ حقوقِ العهد على كل من المتعاهدين مشروطٌ بمراعاة الآخَر لها فإذا لم يُراعِها المشركون فكيف تراعونها؟ على منوال قولِ من قال:
علامَ تُقبلُ منهم فديةٌ وهم *** لا فضةً قبِلوا منّا ولا ذهبا
وقيل: الإلُّ من أسماء الله عز وجل أي لا يُراعوا حقَّ الله تعالى وقيل: الجِوار ومآلهُ الحِلفُ لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتَهم لتشهيره، ولما كان تعليقُ عدمِ رعايةِ العهدِ بالظفر موهماً للرعاية عند عدمِه كُشف عن حقيقة شؤونِهم الجليةِ والخفية بطريق الاستئنافِ وبيِّن أنهم في حالة العجزِ أيضاً ليسوا من الوفاء في شيء، وأن ما يُظهرونه مداهنةٌ لا مهادنه فقيل: {يُرْضُونَكُم بأفواههم} حيث يُظهرون الوفاءَ والمصافاةَ ويعِدون لكم بالإيمان والطاعةِ ويؤكدون ذلك بالأَيمان الفاجرةِ ويتعللون عند ظهورِ خلافِه بالمعاذير الكاذبة، ونسبةُ الإرضاءِ إلى الأفواه للإيذان بأن كلامَهم مجردُ ألفاظٍ يتفوّهون بها من غير أن يكون لها مِصداقٌ في قلوبهم {وتأبى قُلُوبُهُمْ} ما يفيد كلامُهم {وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} خارجون عن الطاعة فإن مراعاةَ حقوقِ العهد من باب الطاعةِ متمرِّدون ليست لهم مروءةٌ رادعةٌ ولا عقيدةٌ وازعةٌ ولا يتسترون كما يتعاطاه بعضُهم ممن يتفادى عن الغدر ويتعفّف عما يجرُّ أُحدوثةَ السوء.


{اشتروا بئايات الله} بآياته الآمرةِ بالإيفاء بالعهود والاستقامةِ في كل أمرٍ أو بجميع آياتهِ فيدخُل فيها ما ذكر دخولاً أولياً أي تركوها وأخذوا بدلها {ثَمَناً قَلِيلاً} أي شيئاً حقيراً من حُطام الدنيا وهو أهواؤُهم وشهواتُهم التي اتبعوها، أو ما أنفقه أبو سفيانَ من الطعام وصَرَفه إلى الأعراب {فَصَدُّواْ} أي عدَلوا ونكبوا، من صدّ صدوداً أو صرَفوا غيرَهم من صدّ صداً والفاء للِدلالة على سببية الاشتراءِ لذلك {عَن سَبِيلِهِ} أي الدينِ الحق الذي لا محيدَ عنه، والإضافةُ للتشريف أو سبيل بيته الحرام حيث كانوا يصُدّون الحجّاجَ والعُمّارَ عنه {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بئس ما كانوا يعملونه أو عملُهم المستمرّ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ وقد جُوِّز أن تكون كلمةُ ساء على أصلها من التصرف لازمةً بمعنى قبُح، أو متعديةً والمفعولُ محذوفٌ أي ساءهم الذي يعملونه أو عملُهم.


وقوله عز وعلا: {لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} ناعٍ عليهم عدمَ مراعاةِ حقوقِ عهدِ المؤمنين على الإطلاق فلا تكرارَ، وقيل: هذا في اليهود أو في الأعراب المذكورين ومَنْ يحذو حذوهم، وأما ما قيل من أنه تفسير لقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ} أو دليلٌ على ما هو مخصوصٌ بالذم فمُشعِرٌ باختصاص الذمِّ والسوء بعملهم هذا دون غيره {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما عُدّد من الصفات السيئةِ {هُمُ المعتدون} المجاوزون الغايةَ القُصوى من الظلم والشرارة {فَإِن تَابُواْ} أي عما هم عليه من الكفر وسائرِ العظائمِ، والفاءُ للإيذان بأن تقريعَهم بما نُعيَ عليهم من مساوىء أعمالِهم مزجرةٌ عنه ومِظنةٌ للتوبة {وَأَقَامُواْ الصلاة وآتَوْا الزَّكَاةَ} أي التزموهما وعزموا على إقامتهما {فَإِخوَانُكُمْ} أي فهم إخوانُكم وقوله تعالى: {فِى الدين} متعلقٌ بإخوانُكم لما فيه من معنى الفعلِ أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فعاملوهم معاملةَ الإخوان، وفيه من استمالتهم واستجلابِ قلوبِهم ما لا مزيدَ عليه، والاختلافُ بين جوابِ هذه الشرطيةِ وجوابِ التي مرت من قبلُ مع اتحاد الشرطِ فيهما لما أن الأولى سيقت إثرَ الأمرِ بالقتل ونظائرِه فوجب أن يكون جوابُها أمراً بخلافِ ذلك وهذه سيقت بعد الحُكم عليهم بالاعتداء وأشباهِه فلا بد من كون جوابِها حُكماً بخلافه البتة {وَنُفَصّلُ الايات} أي نبيّنها، والمرادُ بها إما ما مر من الآيات المتعلقةِ بأحوال المشركين من الناكثين وغيرِهم وأحكامِهم حالتي الكفرِ والإيمان وإما جميعُ الآياتِ فيندرج فيها تلك الآياتُ اندراجاً أولياً {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ما فيها من الأحكام أو لقوم عالمين وهو اعتراضٌ للحث على التأمل في الأحكام المندرجةِ في تضاعيفها والمحافظةِ عليها.
{وَإِن نَّكَثُواْ} عطفٌ على قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ} أي وإن لم يفعلوا ذلك بل نقضوا {أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} الموثقِ بها وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القوة إلى الفعل حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ} الآية، أو ثبتوا على ما هم عليه من النَّكْث لا أنهم ارتدوا بعد الإيمان كما قيل {وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ} قدَحوا فيه بصريح التكذيبِ وتقبيحِ الأحكام {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} أي فقاتلوهم، وإنما أوثر ما عليه النظمُ الكريم للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رياسةٍ وتقدم في الكفر أحقّاءَ بالقتل والقتال، وقيل: المرادُ بأئمتهم رؤساؤُهم وصناديدُهم، وتخصيصُهم بالذكر إما لأهمية قتلِهم أو للمنع من مراقبتهم لكونهم مظِنةً لها أو للدِلالة على استئصالهم، فإن قتلَهم غالباً يكون بعد قتلِ مَنْ دونهم، وقرئ {أئمة} بتحقيق الهمزتين على الأصل والأفصحُ إخراج الثانية بينَ بينَ وأما التصريحُ بالياء فلحنٌ ظاهرٌ عند الفراء {إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ} أي على الحقيقة حيث لا يراعونها ولا يعدّون نقضَها محذوراً وإن أجْرَوها على ألسنتهم، وإنما علّق النفيُ بها كالنَكْث فيما سلف لا بالعهد المؤكدِ بها لأنها العُمدةُ في المواثيق، وجعلُ الجملة تعليلاً للأمر بالقتال لا يساعده تعليقُه بالنكث والطعنِ لأن حالَهم في أن لا أيمانَ لهم حقيقةً بعد النكثِ والطعن كحالهم قبل ذلك وحملُه على معنى عدمِ بقاءِ أيمانِهم بعد النَّكثِ والطعن مع أنه لا حاجةَ إلى بيانه خلافُ الظاهرِ، ولعل الأولى جعلُها تعليلاً لمضمون الشرطِ كأنه قيل: وإن نكثوا وطعَنوا كما هو المتوقَّعُ منهم إذ لا أيمانَ لهم حقيقةً حتى لا ينكُثوها أو لاستمرار القتالِ المأمورِ به المستفادِ من سياق الكلامِ، كأنه قيل: فقاتلوهم إلى أن يؤمنوا إنهم لا أَيمانَ لهم حتى يُعقدَ معهم عهدٌ آخر، وقرئ بكسر الهمزة على أنه مصدر بمعنى إعطاءِ الأمانِ أي لا سبيلَ إلى أن تُعطوهم أماناً بعد ذلك أبداً وأما العكسُ كما قيل فلا وجه له لإشعاره بأن معاهدتَهم معنا على طريقة أن يكون إعطاءُ الأمانِ من قِبَلهم وذلك بيِّنُ البُطلان أو بمعنى الإسلام ففي كونه تعليلاً للأمر بالقتال إشكالٌ بل استحالةٌ لأنه إن حُمل على انتفاء الإسلامِ مطلقاً فهو بمعزل عن العِلّية للقتال أو للأمر به كما قبل النكثِ والطعن، وإن حُمل على انتفائه فيما سيأتي فلا يلائم جعلَ الانتهاءِ غايةً للقتال فيما سيجيء فالوجهُ أن يُجعل تعليلاً لما ذُكر من مضمون الشرطِ كأنه قيل: إن نكثوا وطعَنوا وهو الظاهرُ من حالهم لأنه لا إسلامَ لهم حتى يرتدعوا عن نقض جنسِ أَيمانهم وعن الطعن في دينكم {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} متعلقٌ بقوله تعالى: {فقاتلوا} أي قاتلوهم إرادةَ أن ينتهوا أي ليكن غرضُكم من القتال انتهاءَهم عما هم عليه من الكفر وسائرِ العظائمِ التي يرتكبونها لا إيصالَ الأذية بهم كما هو ديدنُ المؤذِين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8